عن امرأة من المعافر تشبه أمي

نبيل عوض/

كانت تجلس على عتبة بيتها المهدّم، وأمامها طريق ممتد بلا نهاية، يفرشه الغبار وتحفه بقايا جدران تشهد أن هنا كانت مدينة. في يدها مسبحة قديمة، تدير حباتها ببطء كأنها تعد بها الأيام التي عبرت دون أن تحمل سلاما كانت السماء رمادية، والريح تحمل رائحة البارود ممزوجة بملح البحر البعيد.

رفعت رأسها نحوي، وعيناها تلمعان بدمع محبوس، وقالت بصوت يخرج من عمق الجراح:

مقالات ذات صلة

“لم يعد للحياة شغف يا ولدي… فقد اختلط الحابل بالنابل.”

كان في نبرتها ثقل السنين، وفي وقفتها كبرياء امرأة قتبانية فقدت أولادها الثلاثة في معارك نجدة لأصهارهم السبئيين. واليوم، وهي ترى وطنها يتفتت بين الحروب، تشعر أن الفقد لم يعد يُقاس بعدد الأرواح فقط، بل بعدد الأحلام التي تُدفن قبل أن تولد.

سكتت لحظة، كأنها تصغي لشيء بعيد، ثم قالت: لا بأس، أنا بخير يا ولدي… سنهزم مغول العصر، يوماً ما. ربما ليس قريبا، لكننا أبناء أرض لا تعرف الركوع طويلًا. سنعصر النبيذ حين يرحل الغبار، وتعود الأمجاد لأصحابها، ولو بعد جيل أو جيلين.

وقفت، وشمرت برأسها للأعلى مرة أخرى، وانصرفت. كانت خطواتها على التراب تشبه وقع طبول الحرب، وخلفها كانت الريح تحمل رائحة العنب واللبان ممزوجة برائحة البارود، وكأن الأرض تهمس: لا النصر قريب، ولا الهزيمة قدر محتوم… إنما هي رحلة طويلة بينهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى